الخميس، 4 فبراير 2021

كهلٌ و سرب الحمام...للأستاذ / جرجس لفلوف.

 خرجتُ وحيداً أحاول تنشيط ذاكرتي التي عطلها هواء خريفي الصحراوي والذي وصلت إليه مترنحاً بين عنفوان الشباب ووهنِ الشيخوخة وإغواءُ قلبي على ضخ دماءٍ حمراء تجمّدت في مجرى شراييني المتيبّسة علّها تعيدُ لأعضائي بعض حيويتها، وتسقي بذوراً زرعتها في تربة عمري التي جفّت ضروعها علها تبرعم قبل أن يميتها جفاف العطالة والسكون.

حرثتُ بأقدامي المتيبّسة الشوارع الغاصة بقوافل العابرين إلى أعمالهم ومقاصدهم وكان مقصدي حديقةً عامة أستنشق عبير ورودها وأمدّ رئتيَّ بهواء خالٍ من سموم المدينة وأمتّعُ عينيّ بلوحةٍ خضراء رسمتها مصاطبها الربيعيةَ وأشجارها الوارفة الظلّ تعوّضني رؤية لوحةَ اليباس التي رسمتها جدران منزلي وأطفئُ ظمأ روحي بقصائد تنشدها الطبيعة وبعض زوار الحديقة من طير وحيوان وأنس تعيدني إلى أجمل مرحلةٍ يحيها الإنسان في رحلة عمره (الطفولة).
وصلتُ الحديقة منهكاً، جلستُ على مقعدٍ بجانب السور أخذت نفساً عميقاً من هواء الحديقة النقي وزفرت طويلاً مخلصاً رئتي مما اختزنته من غازات وهواء ملوّث، تركت عينيّ تسرح في فضاء الحديقة تبحث في ساحاتها وزواياها عن منظرٍ جميلٍ يساعد على قطع ذيل الوقت الطويل الذي تصنعه الوحدة ـ ألا تساوي ساعة من الوحدة يوماً كاملاً؟ ـ
أجملُ ما رأته عيناي مجموعةً من الحمام متعددةَ الأحجام والألوان تحتلّ إحدى الساحات تملأ الفراغ بين أرضها وسمائها منها ما يطير على علوٍّ منخفض ثم يهبط بهدوء، ومنها ما يرفرف بجناحيه ورجليه تسيران على الأرض. يقترب الأطفال منها فلا تخاف ولا تتذمّر لأنها تحيا بسكينة وسلام تتحرك بين المقاعد وعلى المصاطب الخضراء تلتقط ما تجده صالحاً للطعام وتدفع بقدميها ما لا يناسبها، تقترب من مكان جلوسي وتأنسُ لسكوني فتتصرف وكأنني لست موجوداً أو أنها كانت تعتقد أنني أحد أعضائها أو صديقاً لهم.
أثار هذا المنظر الممتع فضولي، فأخذت أراقب ما يجري بين أفراد هذا التجمّع من حركات وممارسات تلقائية أو مقصودة الهدف والغاية، فرأيتها تدلّ على محبةٍ وتفاهم واحترام متبادل وحياة معيشية مشتركة بين أفراد المجموعة كبيرها وصغيرها. ينفشُ الذكر ريشهُ ويومئ برأسه إلى أنثى قريبةً منه فإن راق لها هدأت فاعتلاها راضياً وإن لم يرق لها اعتذرت فيتركها ويبتعد باحثاً عن غيرها وانتظرت هي ذكراً يروق لها فتعانقه ويتبادلا القبلات. الطير الصغير يتحرك كما يشاء يجد العناية والرعاية من الجميع يمارس هواياته ويتعلم من الكبار. مجتمعٌ حرٌّ لكل فردٍ فيها حرية الاختيار، لا اغتصاب ولا اعتقال ولا حقد ولا انتقام ولا فرض سلوك من فرد لا يقبله الآخر. مجتمعٌ تجمعه المحبة والوئام والاحترام المتبادل مسالمٌ مثاليٌ، تمنيت أن أكون أحد أفراده.
أمضيت نهاري برفقة سرب الحمام هذا إلى أماكن مبيته ورحلت أنا إلى مكان مبيتي شارد الذهن مشوش الفكر تؤرجحني أحاسيسي بين الهدوء والخلود إلى النوم أو السهر وحيداً حتى الفجر وعقلي تتقاذفه أسئلة أثارها ما شاهدته في رحلتي ولا أجد جواباً لها. لماذا لا نتعلم من الحمام سبل العيش؟ الحمام طيرٌ طاهرٌ بسيطٌ تبشر رؤياه بالخير والعطاء. أليست الحمامة من بشَّر نوحاً بانحسار الماء عن الأرض بعد أن ذهب الغراب ولم يعد؟ ألم يقل السيد المسيح (كونوا ودعاءَ كالحمام)؟ أليس الأحرى بالإنسان الذي يملك العقل أن يكون وديعاً؟ ليس للحمام مخالب وأنياب. لماذا لا يقتلع الإنسان مخالبه وأنيابه ويرمي ما بيديه ورأسه من وسائل الموت والدمار؟ الحمام لا يأكل سوى حاجته لا يخزّن ولا يختزن طعاماً أو شراباً، لماذا لا يكون الإنسان مثله لا يأخذ سوى حاجته ويتوقف عن اكتناز الثروات؟ الحمام يعيش حياة المحبة الكاملة يدخل أفراده في شراكةٍ لا يعرف الفردية ولا التفريق بين صغير وكبير أو بين ذكر وأنثى ولا بين نوعٍ ونوع أو شكل وشكل أو لون ولون أبيضاً كان أو أسوداً، الجميع يشكّل مجتمعاً متكاملاً ليس فيه فقيراً وغنياً، ضعيفاً وقوياً، قبيحاً وجميلاً، سيداً وعبداً، لماذا لا يميت الإنسان غرائز الأنانية والطمع في نفسه ويعيشُ مع أخوته بحب وسلام؟ يتساوى أفراد مجتمع الحمام في الحقوق والواجبات يرعى فيه الكبار الصغار حتى بلوغهم سن الرشد ينخرطون في الجماعة أخوة وأهلاً ورفاق درب، الكل يحيى في الكل هانئاً سعيداً يموت في موعده بغير صخب ولا نواحٍ، فلماذا لا يكون مجتمع الإنسان هكذا؟
يبدو أن عقل الإنسان يغوص في مستنقع الغرائز والأحلام ويعوم على سطح الظواهر والمظاهر وتناقضاتها وكأنه ولد ليصنع الحياة لا ليعيشها كما يجب أن تعاش محكومٌ بغرائز تشبع أوهامه وجبروته دون أن يدري أنه محكومٌ بالزوال قبل أن يشبع غرائزه وأنانيته. ليتني كنتُ من جنس الحمام.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حبّ المقدس.....بقلم الشاعر / جمعة المصابحي -بوح القلم-

  أحبك كأول أنثى تزينت بها أحلامي .. احبك بجنون عاشق فتك به الإنتظار .. واحبك كآخر انثى ولدت بديواني .. ياطفلة قد سرقت النبض وملأت النبضات ....